فصل: رسم السلطان بإخراج البطالين من الأمراء من الديار المصرية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


ثم في تاسع عشر شهر ربيع الأول قدم القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق بعد أن خرج أكابر الدولة إلى لقائه وطلع إلى السلطان وقبل الأرض ثم نزل إلى داره‏.‏

وطلع من الغد إلى القلعة في يوم السبت العشرين من شهر ربيع الأول المذكور وخلع السلطان عليه باستقراره في كتابة السر بالديار المصرية عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد شغور الوظيفة مدة طويلة وهذه ولاية كمال الدين المذكور لكتابة السر ثاني مرة ونزل في موكب جليل‏.‏

قال المقريزي‏:‏ وسر الناس به سرورًا كبيرًا لحسن سيرته وكفايته وجميل طريقته وكرمه وكثرة حيائه فالله يؤيده بمنه انتهى كلام المقريزي‏.‏

قلت‏:‏ هو كما قاله المقريزي وزيادة حتى إنني لا أعلم في عصرنا هذامن يدانيه في غزير محاسنه‏.‏

رحمه الله تعالى‏.‏

ثم في يوم الخميس أول جمادى الأولى قدم الأمير مقبل الحسامي الدوادار كان نائب صفد وكان السلطان قد ركب من القلعة إلى خارج القاهرة فلقيه السلطان وخلع عليه وعاد مقبل المذكور في خدمة السلطان إلى القلعة‏.‏

ثم نزل مقبل في دار أعدت له فأقام بالقاهرة إلى يوم ثم في يوم الخميس ثامنه خلغ السلطان على الأمير أسنبغا الطياري أحد أمراء العشرات واستقر في نظر جدة عوضًا عن سعد الدين إبراهيم بن المرة وأذن لابن المرة المذكور أن يتوجه إلى خدمته‏.‏

فلما كان يوم حادي عشر جمادى الأولى المذكورة نودي في الناس بالإذن في السفر إلى الحجاز رجبية صحبة الأمير أسنبغا الطياري المذكور فسر الناس بذلك سرورًا زائدًا لأن ابن المرة كان لا يدع أحدًا أن يسافر معه خوفًا عليهم من قطاع الطريق‏.‏

ثم في سابع عشرين جمادى الأولى المذكورة سافر الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ إلى جهة الوجه القبلي وهو يوم ذاك يباشر الوزارة والأستادارية معًا وكان سفره إلى الوجه القبلي لتحصيل ما يقدر عليه من الجمال والخيل والبغال والغنم والمال لأجل سفر السلطان إلى جهة البلاد الشامية‏.‏

كل ذلك والناس يأخذون ويعطون في سفر السلطان فإنه وقع منه التجهيز للسفر غير مرة ثم تغيرعزمه عن ذلك‏.‏

ثم في تاسع عشرينه قدم إلى القاهرة كتاب القان شاه رخ بن تيمورلنك صاحب ممالك العجم وجغتاي على يد بعض تجار العجم يتضمن أنه يريد كسوة الكعبة وأرعد فيه وأبرق ولم يخاطب السلطان فيه إلا بالأمير برسباي‏.‏

وقد تكررت مكاتبته للسلطان بسبب كسوة الكعبة غير مرة وهو لا يلتفت إليه ولا يسمح له بذلك بل يكتب له بأجوبة خشنة محشونة بالتوبيخ والوعيد والبهدلة حتى إنه كلما ورد منه كتاب وأجابه السلطان بتلك الأجوية الخشنة لا يشك الناس أن شاه رخ يرد إلى البلاد الشامية عقيب ذلك فلم يظهر له خبر ولا نظر له أثر‏.‏

وقد استخف الملك الأشرف بشأنه حتى إنه صار إذا أتاه قاصده لا يلتفت إليه ولا إلى ما في يده من الكتب بالكلية‏.‏

ويأتي إن شاء الله تعالى ذكر ما فعله ببعض قصاده من الضرب والبهدلة في محله من هذا الكتاب‏.‏

قلت‏:‏ لا أعرف للملك الأشرف في سلطنته حركة بعد افتتاحه لقبرس أحسن من ثباته مع شاه رخ المذكور في أمر الكسوة وعدم اكتراثه به فإنه أقام بفعلته هذه حرمة للديار المصرية ولحكامها إلى يوم القيامة‏.‏

انتهى‏.‏

ثم في يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة أنفق السلطان في المماليك المجردين إلى مكة وهم خمسون مملوكًا لكل واحد منهم مبلغ ثلاثين دينارًا وتجهزوا للسفر إلى مكة صحبة الأمير أسنبغا الطياري فلما كان يوم الإثنين ثامن عشر جمادى الآخرة المذكورة برز فيه الأمير أسنبغا الطياري بمن معه من المماليك السلطانية والحجاج‏.‏

وفيه خلع السلطان على سعد الدين إبراهيم بن المرة ليكون رفيقًا للأمير أسنبغا الطياري في التكلم على بندر جدة‏.‏

وفي هذه الأيام قوي عزم السلطان على السفر وظهر للناس حقيقة ذلك من تجهيز أمور السلطان وتعلقاته للسفر‏.‏

وأيضا فإنه رسم في هذه الأيام بصرف نفقة المماليك السطانية بسبب السفر‏.‏

ثم في يوم الخميس حادي عشرين جمادى الآخرة المذكورة أنفق السلطان في الأمراء نفقة السفر‏.‏

فعند ذلك اضطرب الناس وأخذوا في تجهيز أمورهم وتيقنوا صدق القالة‏.‏

فحمل السلطان إلى الأمير الكبير أتابك العساكر سودون من عبد الرحمن أكياس فضة حسابًا عن ثلائة آلاف دينار وإلى كل من أمراء لألوف وهم عشرة أنفس لكل واحد الذي دينار وإلى كل من أمراء الطلبخانات خمسمائة دينار وإلى كل من أمراء العشرات مائتي دينار وكل ذلك فضة حسابًا عن الذهب من سعر الدينار بمائتين وعشرين درهمًا والدينار يومئذ بمائتين وثمانين فالنفقة على هذا الحكم تنقص مبلغًا كبيرًا غير أنه من هو المشاحح لذلك ولسان الحال يقول‏:‏ يد الخلافة لا تطاولها يد‏.‏

وكان هذا أيضًا بخلاف القاعدة فإن الملوك أن تنفق أولًا على المماليك السلطانية ثم تنفق على الأمراء فكان ذلك بخلاف ما كان‏.‏

وكان له سبب فيما قيل وهو أن الملك الأشرف كان عنده بخل وعدم محبة للسفر من مبدأ أمره إلى أيام سلطنته وكان أشاع في السنين الماضية أنه يريد السفر لقتال قرايلك‏:‏ يوهم قرايلك بذلك ليرسل إليه بالدخول في طاعته وكان قرايلك أرسل إلى السلطان في ذلك لما كان ولده هابيل في حبس الملك الأشرف فلما مات هابيل بالطاعون في سنة ثلاث وثلاثين في محبسه أمسك قرايلك عن مكاتبات السلطان وأخذ في ضرب معاملاته وصار السلطان في كل سنة يتجهز للسفر ويشيع ذلك إرداعًا لقرايلك فلم يلتفت قرايلك لذلك‏.‏

فلما طال الأمر على السلطان حقق ما كان أشاعه من السفر مخافة العار والقالة في حقه‏.‏

وتأييد ما قيل أنني سمعته يقول في بعض منازله في سفره إلى آمد وأظنه في العودة‏:‏ لو سألني قرايلك في الصلح والدخول في طاعتي بمقدار ما سأله للأمير جكم من عوض نائب حلب لما مشيت لقتاله أو أقل من ذلك لرضيت فهذا الخبر يقوي القول المقدم ذكره‏.‏

واستمر السلطان في انتظار قدوم رسل قرايلك بالصلح في كل يوم وساعة وهو يترجى أنه إذا بلغه صحة سفر السلطان إلى قتاله يرسل قضاعه في السؤال بالصلح وأرباب دولته تشير عليه بالتربص والتأني في أمر السفر مخافة من وقوعهم في الكلف الكثيرة فأشاروا عليه بأن ينفق في الأمراء أولًا فربما يأتي رسول قرايلك في السؤال ويبرم الصلح فيكون استعادة المال منهم أهون من استعادته من المماليك السلطانية‏.‏

فحسن ذلك ببال السلطان وهو كما قيل في الأمثال إن كلمة الشح مطاعة وأنفق في الأمراء وعوق نفقة المماليك إلى أن كان يوم سلخ جمادى الآخرة‏.‏

فلما يئس من قرايلك أخذ في نفقة المماليك السلطانية في سلخ الشهر المذكور فأنفق على عدة كبيره من المماليك السلطانية لا يحضرني عدتهم‏.‏

قال المقريزى‏:‏ وهم ألفان وسبعمائة‏.‏

وفي ظني أنهم كانوا أكئر من ذلك غير أني لم أحرر عدتهم‏.‏

فجلس السلطان بالمقعد الذي على باب البحرة من الحوش السلطاني بقلعة الجبل وأعطى لكل مملوك صرة فيها ألف درهم وخمسون درهمًا فضة أشرفية عنها من الفلوس اثنان وعشرون ألف درهم وهي مصارفة مائة دينار من حساب صرف كل دينار بمائتين وعشرين درهمًا فلوسًا وكان صرف الدينار يوم ذاك بمائتين وثمانين درهما‏.‏

كما حملت النفقة أيضًا للأمراء على هذا الحساب‏.‏

وكانت المماليك السلطانية اتفقوا على أنهم لا يأخذون إلا مائة دينار ذهبًا ودخلوا على ذلك‏.‏

فلما استدعى الديوان أول اسم من طبقة الرفرف خرج صاحبه وأخذ وباس الأرض وعاد إلى حال سبيله‏.‏

واستدعى الديوان من هو بعده فخرج واحد بعد واحد إلى أن تمت الطبقة ولم يتفوه أحد منهم بكلمة في معنى ما اتفقوا عليه‏.‏

ولما نزلوا بعد القبض للنفقة صار بعضهم يوبخ البعض خفية على ترك ما اتفقوا عليه إلى أن قال لهم بعض المماليك المئيدية‏:‏ احمدوا الله على هذا العطاء فوالله لو لم ينفق السلطان فيكم وأمركم بالسفر معه من غير نفقة لخرجتم معه صاغرين وأولهم أنا‏.‏

قلت‏:‏ تلك أمة قد خلت‏.‏

وهؤلاء القوم يأكلون الأرزاق صدقة عن تلك الأمم السالفة فإننا لا نعلم بقتال وقع في هذا القرن أعني عن قرن التسعمائة غير وقعة تيمورلنك مع نواب البلاد الشامية على ظاهر حلب لا مع العساكر المصرية‏.‏

وأما ما وقع بعد ذلك من الوقائع في الدولة الناصرية فرج والدولة المؤيدية شيخ والدولة الظاهرية ططر والدولة المنصورية محمد بن ططر فهو فرع من القتال لا القتال المعهود بعينه‏.‏

وتصديق ذلك أنه لم تكن وقعة وقعت في هذه الدول أعظم من وقعة شقحب ومع ذلك لم يقتل في المصاف خمسون رجلًا من الطائفتين‏.‏

وما وقع بعد ذلك من الوقائع فتنجلي الوقعة ولم يقتل فيها رجل واحد‏.‏

وقد ثبت عند المؤرخين أنه قتل في الوقعة التي كانت بين تيمورلنك وبين ملك دلي أحد ملوك الهند في المصاف زيادة على عشرة آلاف نفس في أقل من يوم ونحن لا نطالب أحدًا بذلك غير أن الازدراء بالغير على ماذا انتهى‏.‏

ثم في يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب قدم الصاحب كريم الدين عبد الكريم من الوجه البحري بعد أن أخذ خيول أهله وجمالهم وأغنامهم وأموالهم هو وأتباعه فما عفوا ولا كفوا‏.‏

ثم في يوم الخميس ثاني عشر شهر رجب المذكور أدير محمل الحاج ولم يعمل فيه ما جرت به العادة من التجمل ولعب الرماحة بل أوقف المحمل تحت القلعة وأعيد ولم يتوجه إلى مصر ثم في يوم السبت رابع عشر شهر رجب المذكور خرجت مدورة السلطان وخيام الأمراء من القاهرة ونصبت بالريدانية لأجل سفر السلطان‏.‏

ثم في يوم الاثنين سادس عشره خرج أمراء الجاليش مقدمة لعسكر السلطان وهم الأمير سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر والأمير إينال الجكمي أمير سلاح والأمير قرقماس الشعباني الناصري حاجب الحجاب والأمير قاني باي الحمزاوي والأمير سودون ميق والجميع مقدمو ألوف ونزلوا بخيمهم بطرف الريدانية تجاه مسجد التبن‏.‏

ثم

 رسم السلطان بإخراج البطالين من الأمراء من الديار المصرية

فرسم للأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب كان في الدولة المؤيدية شيخ بالتوجه إلى القدس ثم رسم له أن يتوجه صحبة السلطان إلى السفر فسافر في ركاب السلطان وهو يوم ذاك من جملة أمراء العشرات ثم رسم السلطان بإخراج الأمير أيتمش الخضري الظاهري المعزول عن الأستادارية قبل تاريخه إلى القدس فخرج إليه ومنع السلطان من بقي من أولاد الملوك من الأسياد من ذرية الملك الناصر محمد بن قلاوون وغيره من سكنى القلعة وطلوعها في غيبة السلطان وأخرجوا من دورهم فيها‏.‏

وكانوا لما منعوا من سنين من سكن القلعة ورسم لها الملك الأشرف بالنزول منها والركوب حيث شاءوا سكن أكثرهم بالقاهرة وظواهرها فذلوا بعد عزهم وتهتكوا بعد تحجبهم وبقي من أعيانهم طائفة مقيمة بالقلعة وتنزل إلى القاهرة في حاجاتهم ثم تعود إلى دورهم فلما كان سفر السلطان في هذه السنة أخرجوا الجميع منها ومنعوا من سكنى القلعة فنزلوا وتفرقوا بالأماكن بالقاهرة‏.‏

والعجب أن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان فعل ذلك بأولاد الملوك من بني أيوب فجوزي في ذريته وكان الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب فعل ذلك بأولاد الخلفاء الفاطميين فكل واحد من هؤلاء جوزي في أولاده بمثل فعله ووقع ذلك لابن الملك الأشرف ولغيره ولا يظلم ربك أحدًا‏.‏

ثم في يوم سابع عشره خلع السلطان على دولات خجا الظاهري بإعادته إلى ولاية القاهرة عوضًا عن التاج بن سيفة الشوبكي بحكم سفره مع السلطان مهمندارًا وأستادار الصحبة‏.‏

هذا وقد ترشح الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس لإقامته بالقاهرة في غيبة السلطان وترشح الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهنسي للإقامة بباب السلسلة في غيبة السلطان حسبما يأتي ذكره‏.‏

سفر السلطان الأشرف برسباي إلى آمد لما كان يوم الخميس تاسع عشر شهر رجب من سنة ست وثلاثين وثمانمائة الموافق لأول فصل الربيع وانتقال الشمس إلى برج الحمل ركب السلطان الملك الأشرف برسباي من قلعة الجبل ببقية أمرائه ومماليكه وعبى أطلابه وتوجه في الساعة الثالثة من النهار المذكور إلى مخيمه بالريدانية خارج القاهرة تجاه مسجد التبن فسار في موكب جليل إلى الغاية وقد خرج الناس لرؤيته إلى أن وصل إلى مخيمه وصحبته من الأمراء المقدمين‏:‏ الأمير جقمق العلائي أمير آخور والأمير أركماس الظاهري الدوادار والأمير تمراز القرمشي رأس النوب والأمير يشبك السودوني المعروف بالمشد والأمير جانم ابن أخي الملك الأشرف والأمير جاني بك الحمزاوي فهؤلاء من مقدمي الألوف وسافر معه جماعة كثيرة من أمراء الطبلخاناه مثل الأمير قراخجا الشعباني الظاهري برقوق ثاني رأس نوبة والأمير قراسنقر من عبد الرحمن الظاهري برقوق والأمير قراجا الأشرفي شاد الشرابخاناه والأمير تمرباي التمربغاوي الحوادار الثاني والأمير شيخ الركني الأمير آخور الثاني والأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج أحد رؤوس النوب والأمير تغري بردي البكلمشي المؤذي أحد رؤوس النوب فهؤلاء الذين يحضرني الآن أسماؤهم‏.‏

وسافر معه عدة كبيرة من الأمراء العشرات وخلع على الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش باستقراره في نيابة الغيبة ورسم له بسكنى باب ألمجسلة والحكم بين الناس‏.‏

ورسم باستقرار الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس بإقامته بالقاهرة وبسكنه بقصر بكتمر عند الكبش والأمير برد بك الإسماعيلي قصقا الحاجب الثاني‏.‏

وعين أيضًا عدة من أمراء العشرات والحجاب بالإقامة بالقاهرة‏.‏

واستقر بالقلعة المقام الجمالي يوسف ابن السلطان الملك الأشرف وهو أعظم مقدمي الألوف والأمير خشقدم الظاهري الزمام الرومي والأمير تنبك البردبكي نائب قلعة الجبل والأمير إينال الظاهري أحد رؤوس النوب المعروف بأبزى‏.‏

وخلع على الأمير إينال الششماني أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقراره أمير حاج الموسم وخلع على الوزير الأستادار الصاحب كريم الدين بإقامته بالقاهرة وأن يتوجه أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة صحبة السلطان‏.‏

وبات السلطان ليلة الجمعة بالريدانية واشتغل بالمسير من الغد في يوم الجمعة بعد الظهر إلى البلاد الشامية ومعه من ذكرنا من الأمراء والخليفة المعتضد بالله داود والقضاة الأربعة وهم‏:‏ قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي وقاضي القضاة بدر الدين محمود العينتابي الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي وقاضي القضاة محب الدين أحمد البغدادي الحنبلي‏.‏

ومن مباشري الدولة‏:‏ القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر وزين الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخواص والقاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر وأئمة السلطان الذين يصلون به الخمس ونديمه ولي الدين بن قاسم الشيشيني فهؤلاء الذين سمحت القريحة بذكرهم‏.‏

وكان سفر السلطان في الغد من يوم خروجه من القاهرة بخلاف عادة الملوك انتهى‏.‏

وسار السلطان بعساكره لا يتجاوز في سيره المنازل إلى أن وصل إلى مدينة غزة في أول شعبان بعد أن خرج نائبها الأمير إينال العلائي الناصري أعني الملك الأشرف إينال إلى ملاقاته هو وأعيان غزة ودخل السلطان إليها في موكب عظيم سلطاني وأقام بها إلى أن رحل منها في يوم الخميس رابعه بعد أن نزل بالمسطبة خارج غزة ثلاثة أيام وسار إلى جهة دمشق ونحن في خدمته إلى أن وصل إلى مدينة دمشق في يوم الاثنين خامس عشر شعبان‏.‏

واجتاز بمدينة دمشق بأبهة السلطنة وشعار الملك في موكب جليل وحمل الأمير جارقطلو نائب الشام القبة والطير على رأسه إلى أن نزل بالذهليز السلطاني بمنزلة برزة خارج دمشق وكذلك جميع أمرائه وعساكره نزلوا بخيامهم بالمنزلة المذكورة ولم ينزلوا بمدينة دمشق شفقة على أهل دمشق‏.‏

وأقام السلطان بمخيمه خمسة أيام وركب فيها غير مرة ودخل دمشق وطلع إلى قلعتها مرارًا‏.‏

ثم رحل السلطان من دمشق بأمرائه وعساكره في يوم السبت عشرينه يريد البلاد الحلبية فحصل للعسكر بعيض مشقة لعدم إقامته بدمشق من أجل راحة البهائم ولم يعلم أحد قصد السلطان في سرعة السير لماذا وسار السلطان حتى وصل إلى حمص ثم إلى حماة فخرج الأمير جلبان نائب حماة إلى ملاقاة السلطان بعساكر حماه فأقام السلطان بظاهر حماة المذكورة ثلاثة أيام ثم رحل منها يريد حلب‏.‏

ولم يدخل السلطان حماة بأبهة السلطنة كما دخل دمشق لما سبق ذلك من قواعد الملوك السالفة‏:‏ أن السلطان لا يدخل أبدًا من مدن البلاد الشامية بأبهة السلطنة إلا دمشق وحلب ثم مصر وباقي البلاد يدخلها على عادة سفره إلا الملك المؤيد شيخ فإنه لما سافر إلى البلاد الشامية في واقعة نوروز الحافظي عمل بحماة الموكب السلطاني ودخلها بأبهة السلطنة وحمل على رأسه القبة والطير الأمير الكبير استقلالًا بنائبها فإنه لا يحمل القبة والطير على رأس السلطان إلا أحد هؤلاء الأربعة‏:‏ الأمير الكبير أو ابن السلطان أو نائب الشام أو نائب حلب‏.‏

وكان لعمل الملك المؤيد الموكب بحماه سبب وهو أنه كان في أيام إمرته في الدولة الناصرية فرج لما حاصر الأمير نوروز الحافظي بها تلك المدة الطويلة‏.‏

وقع من حقه من أهل حماة أمور شنيعة صار في نفسه من ذلك حزازة فلما ملك البلاد وتسلطن أراد أن ينكيهم بما هو فيه من العظمة ويريهم ما آل أمره إليه انتهى‏.‏

وسار السلطان الملك الأشرف من حماة إلى أن وصل إلى حلب في يوم الثلاثاء خامس شهر رمضان ودخلها على هيئة دخوله إلى دمشق بأبهة السلطنة وحمل القبة والطير على رأسه الأمير قوروه من تمراز نائب حلب وشق السلطان مدينة حلب في موكب عظيم إلى أن خرج منها على هيئته ونزل بمخيمه بظاهر حلب برأس العين ونزل مبه جميع عساكره بخيلهم ولم ينزل أحد منهم بمدينة حب فأقام السلطان بمكانه المذكور خمسة عشر يومًا يركب فيها ويدخل إلى حلب ويطلع على قلعتها‏.‏

وكانت إقامة السلطان بحلب هذه المدة ليرد عليه بها قصاد الأمير عثمان بن طرعلي المدعو قرايلك في طلب الصلح فلم يرد عليه أحد ممن يعتمد السلطان على كلامه فعند ذلك تهيأ السلطان للخروج إلى جهة آمد‏.‏

وسار من حلب في يوم الاثنين حادي عشرين شهر رمضان مخففًا من الأثقال والخيام الهائلة ونزل القضاة بمدينة حلب وصحب الخليفة أمير المؤمنين المعتضد داود وهو في ترسيم الأمير قراسنقر العبد رحماني أحد أمراء الطبلخاناه كما هي العادة في مشي بعض الأمراء مع الخلفاء في الأسفار كالترسيم عليه وهذا أيضًا من القواعد القديمة‏.‏

واستمر السلطان في سيره بجميع عساكره غير أنهم في خفة من أثقالهم إلى أن وصل البيرة وقد نصب جسر المراكب على بحر الفرات لتعدية العساكر السلطانية عليه إلى جهة الشرق فنزل السلطان في البر الغربي الذي جهة حلب وأقام بمخيمه وأمر الأمراء أن تعدي إلى تلك الجهة بأطلابها قبله ثم يسير السلطان بالعساكر بعدهم لئلا تروح العساكر على الجسر المذكور لأن الجسر وإن كان محكمًا فهو موضوع على المراكب والمراكب مربوطة موثوقة بالسلاسل فهو على كل حال ليس بالثابت تحت الأقدام ولا بد أن يرتج عند المرور عليه وكانت سعة الجسر بنحو أن يمر عليه قطاران من الجمال المحملة انتهى‏.‏

فأخذت الأمراء في التعدية إلى جهة البيرة والسلطان بعساكره في خيامهم إلى أن انتهى حال الأمراء فأذن السلطان عند ذلك للعساكر بالمرور على الجسر المذكور إلى البيرة من غير عجلة فكأنه استحثهم على السرعة فحملوا جمالهم للتعدية ووقع بينهم أمور وضراب ومخاصمة بسبب التعدية يطول شرحها إلى أن عدى غالبهم‏.‏

فعند ذلك ركب السلطان بخواصه ومر على الجسر المذكور إلى أن عداه‏.‏

ونزل بقلعة البيرة في يوم السبت سادس عشرين شهر رمضان ونزلت العساكر المصرية والشامية على شاطىء بدر الفرات وغيره فأقام السلطان بالبيرة إلى أن رتب أمورها وترك بها أشياء كثيرة من الأثقال السلطانية ورحل منها في أواخر شهر رمضان المذكور إلى جهة آمد حتى نزل على مدينة الرها في ليلة عيد الفطر فوجدناها خرابًا خالية من أهاليها وأصحابها لم يسكنها إلا من عجز عن الحركة من ضعف بدنه أو لقلة ماله‏.‏

ونزل السلطان على ظاهرها من جهة الشرق وعيد بها عيد الفطر ودخلت أنا إلى مدينة الرها وطلعت إلى قلعتها فإذا هي مدينة لطيفة وقلعتها في غاية الحسن على أنها صغيرة جدًا‏.‏

ثم أصبح السلطان يوم عيد الفطر وقد اشتغل بالمسير إلى جهة آمد وإلى الآن لم يعرف لقرايلك خبر والأقوال فيه مختلفة فمن الناس من يقول إنه تهيأ ويريد قتال العساكر السلطانية ومن الناس من يقول إنه دخل إلى آمد وحصنها ومن الناس من يقول إنه ترك بمدينة آمد ابنه بعد أن حصنها وتوجه إلى قلعة أرقنين وأرقنين على يسار المتوجه إلى آمد‏.‏

وسار السلطان بعساكره من الرها وعليهم الأسلحة وآلة الحرب إلى أن نزل إلى آمد في يوم الخميس ثامن شوال وقبل نزول السلطان عليها صف عساكره عدة صفوف ووراءهم الثقل والخدم حتى ملؤوا الفضاء طولًا وعرضًا‏.‏

ومشى السلطان هو والخليفة ومباشرو الدولة حولهما بغير سلاح يوهم أن المباشرين المذكورين هم قضاة الشرع لكون لبسهم على هيئة لبس الفقهاء وليس بينهم وبين القضاة فرق بل كان فيهم مثل القاضي كمال الدين بن البارزي كاتب السر وهو أفضل من قضاة كثيرة وسار السلطان بهم أمام عسكره‏.‏

وقد هال أهل آمد ما رأوه من كثرة العساكر وتلك الهيئة المزعجة التي قل أن يجتمع في عساكر الإسلام مثلها من ترادف العساكر بعضها على بعض حتى ضاق عليهم اتساع تلك البراري وخلف العساكر المذكورة الأطلاب الهائلة والكوسات تدق والبوقات تزعق وقد تجاوز عدد أطلاب الأمراء لكثرة ما اجتمع على السلطان من العساكر المصرية والنواب بالبلاد الشامية وأمراء التركمان والعربان فكانت عدة الأطلاب التي بها الطبول والزمور تزيد على مائة طلب ما بين أمراء مصر المقدمين وبعض الطبلخانات ونائب دمشق وأمرائها وهم عدة كثيرة ونائب حلب وأمرائها وطرابلس وأمرائها وكذلك حماة وصفد وغزة ونواب القلاع وأمراء التركمان الذين تضرب على بابهم الطبول فدقت عند قدوم السلطان جميع طبول هؤلاء وزعقت الزمور يدًا واحدة فانطبق الفضاء طبلًا وزمرًا حربية هذا مع كثرة البراشم والأجراس المعلقة على خيول الحرب الملبسة بالعدد الكاملة وقلاقل الجمال‏.‏

وعند القرب من مدينة آمد أخذت العساكر تلتم حتى شرف أجناد كثيرة على الهلاك من عظم ازدحام بعضهم على بعض ومع هذا أعرض العساكر مدد العين وصار الرجل من العسكر إذا تكلم مع رفيقه لا يسمع رفيقه كلامه إلا بعد جهد كبير لعظيم الغوغاء فانذهل أهل آمد مما عاينوا من كثرة هذه العساكر وشدة بأسها وحسن زيهم ومن التجمل الزائد في العدد والألات والخيول والأسلحة والكثرة الخارجة عن الحد في العدد‏.‏

وكان قرايلك قبل أن يخرج من مدينة آمد أمر أن يطلق الماء على أراضي آمد من خارج البلد من دجلة ففعلوا ذلك فارتطمت خيول كثير من العسكر بالماء والطين فلم يكترث أحد بذلك ومشى العسكر صفًا واحدًا وخلف كل صف صفوف لا تعد واستمروا في سيرهم المذكور إلى أن حاذوا خندق آمد وقد بهت أهلها لما داخلهم من الرعب والخوف مما طرقهم من العساكر ولم يرم منهم أحد بسهم في اليوم المذكور إلا نادرًا ولا علا أحد منهم على شرفات البلد إلا في النادر أيضًا وصاروا ينظرون العساكر من الفروج التي بين الشرفات‏.‏

ولم يكن لآمد المذكورة قلعة بل سور المدينة لاغير إلا أنه في غاية الحسن من إحكام بنيانه وكل بدنة بالسور المذكور تحمى البدنة الأخرى فلهذا يصعب حصارها ويبعد أخذها عنوة فوقف العسكر حول آمد ساعة‏.‏

ثم مال السلطان بفرسه إلى جهة بالقرب من مدينة آمد ونزل به في مخيمه وأمر الناس بالنزول في منازلهم وأمرهم بعدم قتال أهل آمد على أن أوباش القوم تراموا بالسهام قليلًا فتوجه كل واحد إلى مخيمه ونزل الجميع بالقرب من آمد كالحلقة عليها غير أنهم على بعد منها بحيث إنه لا يلحقهم الرمي من السور وأحدقت العساكر بالمدينة من جهتها الغربية وكان الموضع الذي نزلنا به هو أقرب الأماكن للمدينة المذكورة‏.‏

ونزل السلطان بمخيمه وقد ثبت عنده رحيل قرايلك من آمد وأنه ترك أحد أولاده بها فأقام بمخيمه إلى صبيحة يوم السبت عاشر شوال فركب وزحف بعساكره على مدينة آمد بعد أن كلمهم السلطان في تسليمها قبل ذلك وترددت الرسل بينه وبينهم فأبى من بها من الإذعان لطاعة السلطان وتسليم المدينة إلا يإذن قرايلك‏.‏

ولما زحف السلطان على المدينة اقتحمت عساكر السلطالط خندق آمد وقاتلوا من بها قتالًا شديدًا حتى أشرف القوم على الظفر وأخذ المدينة وردم غالب خندق مدينة آمد بالحجارة والأخشاب‏.‏

وبينما الناس في أشد ما هم فيه من القتال أخذ السلطان في مقت المماليك وتوبيخهم وصار كلما جرح واحد من عساكره وأتي له به يزدريه ويهزأ به وينسب القوم للتراخي في القتال‏.‏

ثم لبس هو سلاحه بالكامل وأراد أن يقتحم المدينة بنفسه حتى أعاقه عن ذلك أعيان أمرائه وهو راكب على فرسه وعليه السلاح الكامل من الخوف إلى الركب واقف على فرسه بمخيمه حيث يجلس والناس وقوف وركبان بين يديه تعده بالنصر والظفر في اليوم المذكور وإن لم يكن في هذا اليوم فيكون في الغد وتذكر له أن القلاع لا تؤخذ في يوم ولا يومين وهو يتكلم بكلام معناه أن عساكره تتهاون في قتال أهل آمدة فلا زالت الأمراء به حتى خلع عن رأسه خوذته ولبس تخفيفة على العادة واستمر القرقل عليه إلى أن ترضاه الأمراء وخلع قرقله فحمي الحر واشتدت القائلة وسئمت الناس من القتال هذا مع ما بلغهم من غضب السلطان بعد أن لم يبقوا ممكنًا في القتال وقد أثخنت جراحات الأمراء والمماليك من عظم القتال‏.‏

كل ذلك والسلطان ساخط عليهم بغير حق فعند ذلك فتر عزم القوم عن القتال من يومئذ وما أرى هذا الذي وقع إلا خذلانًا من الله تعالى لأمر سبق وإلا فالعساكر الذين اجتمعوا على آمد كان يمكنهم أخذ عدة مدن مثل آمد وغيرها‏.‏

ولما انقضى القتال وتوجه كل واحد إلى مخيمه وهو غير راض في الباطن وجد أهل آمد راحة كبيرة بعودة القوم عنهم وبلعوا ريقهم وأخذوا في تقوية أبراج المدينة وسورها بعد أن كان أمرهم قد تلاشى مما دهمهم من شدة قتال من لا قبل لهم بقتاله‏.‏

ونزل السلطان بمخيمه وندب الأمراء والعساكر للزحف على هيئة ركوبهم يوم السبت في يوم الثلاثاء وهو أيضًا في حال غضبه فابتدأ الأمير قوروه نائب حلب والأمير مقبل نائب صفد والأمير جقمق العلائي الأمير آخور في الكلام مع السلطان في تسكين غضبه وقالوا‏:‏ يا مولانا السلطان القلاع كما في علم السلطان ما تؤخذ في يوم واحد ولا في شهر وثم من القلاع ما حاوره تيمورلنك مع كثرة عساكره عشر سنين‏.‏

يا مولانا السلطان الحصون ما تبنى إلا للمنع ولولا ذاك ما بنى أحد حصنًا‏.‏

وقد اجتهد مماليك السلطان وأمراؤه في القتال وجرح الغالب منهم وكان ممن خرح من الأعيان‏:‏ الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وهو كان يوم ذاك أتابك العساكع بدمشق والأمير سودون ميق أحد مقدمي الألوف بديار مصر والأمير تنبك من سيدي بك الناصري المعروف بالبهلوان أحد امراء العشرات ورأس نوبة وأما من المماليك والخاصكية فكثير‏.‏

فكان آخر كلام السلطان للأمراء‏:‏ إن العساكر تركب صحبة الأمراء في يوم الثلاثاء وتزحف على المدينة ويكون الذي يركب مع الأمراء للزحف المماليك القرانيص وأنا ومماليكي الأجلاب نكون خلفهم أراد بذلك عدم معرفة مماليكه بطرق الحرب فحمل الناس كلامه على أنه يفعل ذلك شفقة على مماليكه وأنه يريد هلاك من سواهم‏.‏

وقامت قيامة القوم وتنكرت القلوب على السلطان في الباطن وتطاولت أعناق أمرائه إلى الوثوب عليه واتفق كثير منهم على ذلك لولا أن بعضهم مات من جراحه وتخوف بعضهم أيضًا من بعض وعدم موافقة جماعة أخر من أعيان الأمراء لذلك‏.‏

وكان ممن اتهم بالوثوب على ما قيل الأتابك جارقطلو نائب الشام وطرباي نائب طرابلس ومقبل نائب صفد وتغري بردي المحمودي مات بعد أيام من جرح أصابه وسودون ميق مات أيضًا من جرح أصابه والأمير جانبك الحمزاوي مات في عود الملك الأشرف إلى مصر بعد أن ولاه نيابة غزة على كره منه وجماعة كثيرة غير هؤلاء على ما قيل‏.‏

وكان الذي لم يوافقهم على الوثوب الأمير قوروه والأمير إينال الجكمي أمير سلاح والأمير جقمق الأمير آخور وأما الأمير سودون من عبد الرحمن ألابك العساكر فلم يكن من هؤلاء ولامن هؤلاء لطول مرضه من يوم خرج من مصر وهو في محفة وكل ذلك لم يتحققه أحد غير أن القرائن الواقعة بعد ذلك تدل على صدق هذه المقالة انتهى‏.‏

ولما خرج الأمراء من عند السلطان بعد أن امتثلوا ما رسم به من الزحف في يوم الثلاثاء بلغ السلطان عن الأمراء والمماليك نوع مما ذكرناه فاضطرب أمره وصار يحاور المدينة وهو في الحقيقة محصور من احتراسه من أمرائه ومماليكه وأخذ في الندم على سفره وفتر عزمه عن أخذ المدينة في الباطن وضعف عن تدبير القتال‏.‏

كل ذلك والموكب السلطاني يعمل في كل يوم والأمراء تحضره ويركب السلطان ويسير إلى حيث شاء ومعه الأمراء والنؤاب غير أن البواطن معمورة بالغش ويمنعهم من إظهار ما في ضمائرهم موانع هذا والقتال مستمر في كل يوم بل في كل ساعة بين العسكر السلطاني وبين أهل آمد غير أنه لم يقع يوم مثل يوم السبت المذكور وقتل خلائق من الطائفتين كثيرة وصار السلطان يضايق أهل آمد بكل ما وصلت قدرته إليه هذا وقد قوي أمرهم واشتد بأسهم لما بلغهم من اختلاف عساكر السلطان وصاروا يصيحون من أعلى السور‏:‏ الله ينور جارقطلو وانطلقت ألسنتهم بالوقيعة والسب والتوبيخ من السلطان إلى من دونه‏.‏

وبينما السلطان فيما هو فيه قدم عليه الأمير دولات شاه الكردي صاحب أكل من ديار بكر فأكرمه السلطان وخلع عليه‏.‏

ثم لما بلغ الأشرف أحمد ابن الملك العادل سليمان ابن المجاهد غازي ابن الكامل محمد بن العادل أبي بكر ابن الأوحد عبد الله ابن المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن السلطان الملك الكامل محمد ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي الأيوبي صاحب حصن كيفا قدوم السلطان الملك الأشرف إلى آمد خرج من الحصن في قليل من عسكره في أوائل في القعدة يريد القدوم أعلى السلطان فاعترضه في مسيره جماعة من أعوان قرايلك على حين غفلة وقد نزل عن فرسه لصلاة العصر وقاتلوه إلى أن قتل الملك الأشرف المذكور من سهم أصابه وانهزم بقية من كان معه وانتهبوا فقدم جماعة منهم على الملك الأشرف وعرفوه بقتل الملك الأشرف صاحب الحصن فعظم عليه ذلك إلى الغاية‏.‏

ومن هذا اليوم أخذ السلطان في أسباب الرحيل عن آمد غير أنه صار يترقب حركة يرحل بها لتكون لرحيله مندوحة‏.‏

ثم ندب السلطان جماعة كبيرة من التركمان والحربان من عسكره لسع قتلة الملك الأشرف صاحب الحصن‏.‏

وكان منذ نزل السلطان على آمد وأتباع العسكر السلطاني من التركمان والعربان تعيث وتنهب في قرى آمد وغيرها ويأتون بما يأخذونه للعساكر المذكورة وصارت الغلمان تخرج من الوطاق إلى جهات آمد وتحصد الزروع وتأتي بها الأجناد حتى صار أمام خيمة كل جندي جرن كبير من الزرع وهو الذي قام بعلوفه خيول العسكر في طول مدة الإقامة على آمد ولولا ذلك لكان لهم شأن آخر‏.‏

ولما ندب السلطان الجماعة المذكورة لتتبع قتلة الملك الأشرف وغيره خرجوا إلى جهة من الجهات فوافوا جماعة كبيرة من أمراء قرايلك وقاتلوهم حتى هزموهم وأسروا منهم جماعة كبيرة من أمراء قرايلك وفرسانه وأتوا بهم إلى السلطان وهم نيف على عشرين نفسًا فأمر السلطان بقيدهم فقيدوا‏.‏

ثم توجهوا ثانيًا فوافقوا جماعة أخر فقاتلوهم أيضًا وأسروا منهم نحو الثلاثين ومن جملتهم قرا محمد أحد أعيان أمراء قرايلك فأحضر السلطان قرا محمد وهدده بالتوسيط إن لم يسلم له آمد فأخذوا قرا محمد المذكور ومروا إلى تحت سور المدينة فكلمهم قرا محمد المذكور في تسليم المدينة فلم يلتفتوا إليه فأخذوه وعادوا‏.‏

وأصبح السلطان فوسط منهم تحت سور آمد واتفق في توسيط هؤلاء غريبة وهو أن بعضهم حمل للتوسيط فاضطرب من أيدي حملته فوقع منهم إلى الأرض فقام بسرعة وهرب إلى أن ألقى بنفسه إلى الخندق بعد أن تبعه جماعة فلم يقدروا على تحصيله ثم خرج من الخندق وقد أرخي إليه من سور آمد حبل وتشبث به إلى قريب الشرفة فانقطع الحبل فوقع إلى الأرض ثم جر ثانيًا إلى أعلى المدينة ونجا وقيل إنه مات بعد ثلاثة أيام من طلوعه والله أعلم‏.‏